بالتعليم والقانون تُبنى الدول.. وتُهدم أيضا

خميس, 19/01/2023 - 17:32

حقيقة تاريخية تشهد لها مجتمعات الأرض، وهي أن بناء المجتمع والدولة يبدأ بنهضة تعليمية ونظام قانوني نافذ على الجميع بصرامة وفعالية وحسم.

ودون هاتين القاعدتين لا قيمة لأي إنجاز اقتصادي، أو تنظيمات ومؤسسات سياسية، أو تقدم تكنولوجي، أو ثراء مالي.

لماذا التعليم والقانون هما الأساس والقاعدة والأصل، وكل ما عداهما فرعي وتابع؟

الجواب: لأنهما الوسيلة الوحيدة لضمان الاستدامة، لأنهما يتعلقان بالعنصر الإنساني، بالفرد والجماعة، فدون التعليم يفقد الفرد وجوده، ويتحول إلى كائن حي متحرك، قابل للتغير والتحول والتحكم فيه، فالتعليم هو أساس بناء الإنسان القادر على بناء الحضارة، وتحقيق التنمية والحفاظ عليها.

أما القانون فهو أساس بناء المجتمع، وتنظيم علاقة الفرد بغيره من الأفراد، وضمان عدم اعتداء القوي على الضعيف، وظلم القادر لغير القادر.. القانون هو الذي ينشئ المجتمع، وينظم علاقات أفراده.

لذلك، فإن الأديان الكبرى في العالم جاءت بالتعليم والقانون، وهنا التعليم بمعناه كل وسائل تكوين عقل الإنسان، وبناء ثقافته، التي تحدد سلوكياته، وتنظمها، وتتحكم في أفعاله وترسم مسار وطرق تعامله مع كل ما يحيطه، والتحولات الكبرى في حياة الأمم والدول تتم من خلال التعليم والقانون، فأي أمّة تريد أن تنهض، أو يُراد لها أن تنهار يكون التعليم والقانون هما الوسيلة الأولى، والطريق الأسرع، وأي أمّة تريد أن تحوّل مسارها وتغير هويتها، فإنها تبدأ بالتعليم والقانون، والأمثلة على ذلك كثيرة جدا.. اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية تم تغييرهما بالتعليم والقانون، وتركيا تم تحويل مسارها التاريخي بالتعليم والقانون، وكل المستعمرات التي كانت خاضعة لبريطانيا وفرنسا، تم تغيير نظمها التعليمية والقانونية.

ولنأخذ نموذج مصر في عهد أبناء محمد على تحت نفوذ الدول الدائنة، بريطانيا وفرنسا، ثم تحت الحكم المباشر لبريطانيا منذ 1882، سنجد أن أول التغييرات الجذرية تمت في التعليم، فقد رأت القوى الاستعمارية أن الأزهر الشريف، وهو المؤسسة التعليمية الأرقى والوحيدة في مصر في ذلك الوقت، لن يكون من السهل إخضاعها، وتدجين الدارسين فيه، والتحكم فيهم أو تغيير طريقة تفكيرهم، لإدخال مصر في نسق التقدم الأوروبي، لذلك تم إنشاء مؤسسات خارج الأزهر لضمان أن يكون من يتولون شؤون التعليم والقانون من غير جريجي الأزهر.

فتم أولا إنشاء مدرسة دار العلوم عام 1872 لتخريج المعلمين اللازمين لتدريس اللغة العربية والآداب بالمدارس الابتدائية والتجهيزية، وفي عام 1885 أنشئ بدار العلوم قسم للترجمة لإعداد المترجمين المتخصصين اللازمين للعمل بالمدارس العليا لترجمة الدروس، التي تُلقى باللغتين الفرنسية والإنجليزية، إلى اللغة العربية، وفي عام 1888 أضيفت مهمة جديدة لـ"دار العلوم"، وهي إعداد الخريجين للعمل بوظائف المحاكم الشرعية، وعدلت مناهج الدراسة بما يحقق هذا الهدف، وبعد تخرج أفواج من "دار العلوم" دخلت مصر في حالة "حرب ثقافية"، بين خريجي الأزهر، الذين يرون أن المتخرجين من "دار العلوم" ليسوا بالتعمق نفسه في العلوم الدينية واللغة العربية، فلم يحفظوا المتون، ولم يدرسوا الأصول، وعلى الجانب الآخر يرى خريجو "دار العلوم" أن الأزاهرة "موضة قديمة"، وهنا بدأ الصراع بين العِمامة والطربوش، الذي كان من نتائجه ظهور حركة "الإخوان المسلمين" المتطرفة، تلك التي أنشأها مدرس الخط العربي -خريج دار العلوم- حسن البنا، والذي كان يتجاهل علماء الأزهر، بحيث لا تكاد تجد في أعضاء الجماعة النافذين على مر تاريخها من خريجي الأزهر أكثر من أصابع اليد الواحدة، ثم بعد ذلك تخلت الجماعة عن "دار العلوم"، وأصبحت تجنّد أعضاءها من الطب والهندسة، وبذلك تباعدت الشقة بينها وبين التقاليد الدينية الراسخة في الأزهر الشريف، صاحب المدرسة الوسطية للدين الإسلامي.

الشيء نفسه حصل مع القانون، فبعد أن كان المشتغلون بالقانون من خريجي الأزهر، حين كان القانون من الشريعة، أنشئت في 1886 مدرسة الحقوق، وانقسمت إلى قسمين، ابتدائي وعالٍ، أما القسم الابتدائي فكان يشمل السنتين الأولى والثانية، وكان الغرض منه تخريج المحضرين وموظفي أقلام الكتاب في المحاكم، أما القسم العالي فكان مكونا من ثلاث سنوات دراسية، ويهدف إلى تخريج رؤساء أقلام الكتاب، وأعضاء النيابة، وغيرهم من الموظفين الذين تتطلب وظائفهم ثقافة قانونية.

وبدأت هذه المدرسة تخرّج العاملين في القضاء العام، وانزوى خريجو الأزهر في القضاء الشرعي، المتعلق بأحكام الأسرة، ودخلت مصر في متاهات الازدواجية بين الشريعة والقانون، وعلى المنوال ذاته سارت جميع الدول العربية بعد ذلك، ومع ظهور الحركات الدينية من خارج مؤسسات التعليم الديني صار شعار تطبيق الشريعة هو كلمة السر، التي تجذب الجماهير بوعي أو دون وعي، وحتى بعد أن صارت الشريعة هي مصدر القوانين، لكن الثنائية التاريخية أربكت المشهد بعد ذلك إلى اليوم.

ومن خلال فهم هذه التجربة التاريخية يمكن أن نخلص إلى حقيقة تقول إن محاولات النهوض الحالية في مصر لن تتحقق دون إصلاح التعليم، وتوجيهه الوجهة التي تريدها مصر، وإصلاح القوانين، بما يحقق الحزم والعدالة الناجزة، ويضمن حقوق الأفراد، وينظم علاقات المجتمع، ويضبط السلوكيات العامة، وأي إنجاز دون ضمان رسوخ هاتين القاعدتين: التعليم والقانون، سيكون إنجازا مؤقتا غير قابل للاستدامة، لأن هذه الاستدامة تتطلب إنسانا ومجتمعا، والإنسان لا يصل إلى درجة الإنسان الحقيقي إلا بالتعليم، والمجتمع لا يكون مجتمعا إلا بالقانون، ودونهما يكون الإنسان كائنا حيا، ويكون المجتمع أكداسا من الأفراد متناكفة متناكدة متظالمة.

بالتعليم والقانون تُبنى الأمم وترقى على سلم الحضارة، وتسمو قيمها وأخلاقها، وتصير نموذجا به يقتدي الآخرون، ودون التعليم والقانون تنهار الأمم وتتدهور وتدخل في حالة تخلف مزمنة.

المفكر والسياسي المصري د. نصر محمد عارف

  

        

بحث