الشنقيطي يجيب على سؤال : "ماذا أنجز غزواني حتى الآن؟"

سبت, 15/10/2022 - 20:13

إنجازات غزواني..هَل التَّركُ فعلٌ أمْ لا؟ محمد المختار الشنقيطي

 

 

   

 

لم أتشرف شخصيا باللقاء المباشر مع الرئيس غزواني، أو سماع رؤيته السياسية والاجتماعية والاقتصادية منه مباشرة، لكن لا يختلف اثنان ممن التقَوْه في أنه على علم وثقافة وأدب جَمٍّ، وأنه ليّن العريكة، مُوطَّأ الأكناف، طويل الاستماع، يُبدي التجاوب مع الأفكار والمقترحات الإيجابية التي يطرحها زواره، ويقدِّم الكثير من الوعود الطيبة، والنيات الحسان. كما أن بعض من اختارهم في دائرته القريبة معروفون بالخبرة والنزاهة.. وكل هذه صفات إيجابية، خصوصا في بلد عاني من سطوة الجزمة العسكرية، والقبضة البوليسية، وصعود المتملقين والمتسلقين، أكثر من أربعين عاما.

 

وربما يكون من حظ الرئيس غزواني أنه وصل إلى السلطة في ختام العشرية العزيزية الغبراء، التي هانت فيها الدولة، وماتت السياسة، وساد الارتجال والابتذال. على أن غزواني لم يكن خلال العشرية العزيزية ناشطا معارضا، يقود المظاهرات في الشوارع، بل كان جزءا أصيلا من تلك البنية: اشتراكا في الانقلاب العسكري الجائر على أول رئيس منتخب في تاريخ موريتانيا، وحمايةً لظهر عزيز في ساعة العُسرة، وتوفيراً للغطاء السياسي له إلى نهاية شوطه. ومع ذلك فإن سعيه الحالي إلى محاسبة عزيز قد يشفع له، ويفتح الباب لإيجاد بعض العذر لماضيه السياسي، والحسنات تُذهب السيئات.

 

وإذا كانت سنتا غزواني أفضل -بلا خلاف- من عشرية عزيز، فإن المقارنة بما هو أسوأ أو أفضل ليست تقييما موضوعيا لأي قائد سياسي، إذ يوجد دائما ما هو أسوأ وما هو أفضل. وإنما يكون التقييم الموضوعي لأي قائد سياسي بأمرين: ما تحت يده من إمكان، وما يعوق عمله من عوائق. وأخذاً لهذين الأمرين في الاعتبار، يمكن القول إن غزواني يملك الكثير من الإمكان، وأمامه القليل من العوائق: فقد وصل إلى السلطة على أكتاف قاعدة اجتماعية عريضة، ورحبت به جل القوى السياسية، وهو صاحب سلطة مطلقة في بلد لم يعرف بعدُ الفصل بين السلطات وتوزيع الصلاحيات.

 

ويبدو لي أن التقييم الموضوعي لعامين من سلطة غزواني ينبني على خلاف في قاعدة من قواعد الفقه المالكي، وهي: "هل التَّرك فِعْلٌ أم لا؟" فإذا قلنا إن الترك ليس فعلا، فليس لدينا ما يستحق التقييم -سلبا أو إيجابا- خلال عامين من سلطة غزواني، لأنه لم يفعل شيئا مذكورا حتى الآن. لكن الراجح عند المالكية أن الترك فعلٌ، كما قال العلامة سيدي عبد الله ولد الحاج إبراهيم في (مراقي السعود):

 

فكَفُّنا بالنهي مطلوب النبي والكَفُّ فِعلٌ في صحيح المذهبِ

 

وبناء على أن الترك فعل على الراجح عند المالكية، فإن الرئيس غزواني قد أنجز الكثير، فهو قد ترك سَجن الناس بغير حق، وترك غصْب الأموال من رجال الأعمال بغير حق، وترك استهداف القوى السياسية المعارضة، وترك الخطاب الشعبوي العزيزي الفجّ، وترك عبادة القائد التي حرص عليها سلفه من الحكام الموريتانيين.

 

كما أنه بناء على القاعدة ذاتها، فإن غزواني فشل في الكثير، فقد ترك دفْع البلاد إلى النمو السياسي في اتجاه حكم ديمقراطي مدني، وترَك بناء دولة المؤسسات على أنقاض دولة السيبة والبداوة السياسية، وترك ردع الفاسدين المفسدين يستمرون في إدارة جهاز الدولة، وترك أهل الكفاءة والنزاهة مهملين على الهوامش، وترك التعليم والصحة والبنية التحتية في حالة إهمال محزن، وترك الدبلوماسية الموريتانية أسيرةً لمعسكر الثورة المضادة والليكود العربي (رغم تحسن طفيف على هذه الجبهة مؤخراً).

 

ولستُ مع قبول السقوف الواطئة في التعاطي مع الرئيس غزواني، والاكتفاء بالتوقعات المتواضعة منه. فالشعوب الصبورة الشكورة، والقوى السياسية ذات السقوف الواطئة، قلَّ أن تخطو خطوة ببلادها نحو التطور السياسي، وذلك بسبب رضاها بزاد زهيد من حكامها، الذين يُفترض -أخلاقيا وإنسانيا- أن يكونوا خدماً لها، لا جبارين عليها. فمجرد سماح غزواني لمجتمع مسلم متدين بإعادة فتح مؤسسة تعلِّم الإسلام، أو أخرى تعين المساكين (على حساب الأفراد المحسنين من أبناء المجتمع) ليس إنجازًا، ولا يستحق الثناء في ذاته، لأنه أمر بدهي، ومنعه أصلا ظلم فاحش.

 

فهذا النوع من القبول بالسقوف الواطئة، والإشادة بها، لا يخدم الحق والعدل، ولا يقدّم البلد خطوة إلى الأمام، ولا يدفع الحكام إلى تصحيح أخطائهم، والتوبة من خطاياهم، وتدارك قصورهم. وواجب حمَلة همّ الإصلاح هو الدفع إلى تحسين الموجود، والسعي نحو المنشود، والمدافعة المحسوبة لتحقيق التغيير، لا الإشادة بالبديهيات المبتذلة بمنطق أي دولة محترمة أو سلطة عاقلة.

 

وقد قدمتُ شخصيا للنظام الموريتاني الجديد -كما قدّم له كثيرون- ما يكفي من (آفانْصْ) حسن الظن، ولستُ أنوي المزيد من ذلك، إذ لم ألاحظ في سلوكه العملي حتى الآن (بعيدا عن بلاغة الخطاب وحملات العلاقات العامة) تلك النقلة الإيجابية النوعية التي كنت أتوقعها وأتمناها، مثل: إعادة بناء مؤسسات الدولة، أو السير خطوة نحو التحرر من حكم العسكر، أو خدمة المجتمع البائس على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، أو إحياء الدبلوماسية الموريتانية بشكل يبعث على الاحترام. أتمنى أن يكشف الرئيس غزواني عن وجهه، ويحْسِر عن رأسه، ويسير خطوات ملموسة نحو الإنجاز السياسي بالسير بالبلاد نحو الحكم المدني، وإرجاع العسكريين إلى ثكناتهم، ثم الإنجاز الاقتصادي والاجتماعي الذي يبني ثقافة الدولة ويرسخ مكانتها في قلوب الناس، ثم الإنجاز الدبلوماسي بالخروج من قوقعة معسكر الثورة المضادة إلى آفاق الشعوب الحرة والساعية إلى الحرية. وإلا فإن سلطته ستتحول إلى "ريحة حجرة" بالنسبة لمن أحسنوا بها الظن، وأمَّلوا فيها خيرا، بعد عشر سنوات عجاف.

 

إن ما فعله الرئيس غزواني -حتى الآن- يدخل ضمن خانة "التَّرك" أكثر من خانة "الفعل"،وأعتقد أن حولين كاملين في منصب الرئاسة يكفيان للفطام عن المسالك السياسية التي اعتادها في عمره العسكري والسياسي المديد، والانتقال من حالة "الترك" إلى حالة "الفعل". فالسياسة مواقف وفعل وإنجاز، وليست مواعظ ونيات حسان وكلمات عِذاب .

  

        

بحث