بعض التَّفاهات المُمتعة...بقلم المبدعة{الدهماء ريم}

جمعة, 28/01/2022 - 20:42

بعض التَّفاهات المُمتعة.

........ا

من الأشخاص منْ هوَّ نَمطيٌّ في عاداته، عصيّ التغيير في ذوقه، ثابت في نظامه، أنا من أولئك!

تَتَصاعدُ بنا الدَّالة الأُسيَّة للعُمر، فيتناثر شَطرٌ منَّا خَلفَنا: عادات، سلوكيات، هوايات،.. تسقط صور، تفتر حاسَّة الانبهار،.. لكن تمكثُ أشياء، ليست فقط عالقة فينا بل لاصقة رغم تفاهتها، تُراوغنا ظلالها بعفويَّة.. وما العيب في أن نُخْلِص أبدًا لبعض تفاهاتنا؟، والتي كان اسمها الأصلي أيضًا تفاهات، ولِّ ماهِ متخرگه حتَّ، وقد نتحرَّز من مُمارستها في العلن، لكنَّها مَهْرَبٌ لذيذ، نستقرئُ فيه بعض أمْسِنا،.. «إنَّها صورة أيَّامي على مرآة ذاتي».

في المدرسة رقم واحد بلكصر، في وقتِ الاستراحة، كنا ننزل في دقيقتين اندفاعًا صوب الحنفية الوحيدة لنروي عطشنا، رغم امتلاكنا لقوارير مياه من القصدير كقوارير الجنود،.. لكن غالبا لنُـلَبِّي غواية العبث، نَمرُّ من وسط خندق من الطين الأسود المُطعَّم بالطحالب الخضراء، وفيه يَسْتَطرف القويّ منا تلطيخ الضّعيف، وفيه نَسْخَرُ من جبابرة الجراثيم السّافلة، وحين الوصول لعمود الحنفية، نخفّف التّناطح اتّقاءً لسوط الحارس المهاب محمد ولد الصّبار رحمة الله علينا وعليه، فقد كان يَسُوسنا للوِرد كقطعان غنم، ونشرب في أكفّنا الملوثة مُباشرة، .. لازمتني لذّة شُرب الماء في الكف من الحنفية إلى اليوم، لذّة أرمِّم بها التِّـلقائية وأسقي بها ذكريات دفينة، لكنّي أُحَرِّم نفس الفعل على أطفالي، كسلوك غير مُستساغ في التربية السليمة وفيه هدر للميَّاه!.. الإنسان واعظ ٌ حَشمان امْسيكين.

في الاستراحة ذاتها، أبْتاع حبَّة مانگو، أليِّنها بين كفيّ إلى أن يَتَشكَّل عصير بداخلها، ثم أثقبها من الأعلى وأمتصُّ الرَّحيق، بذلك أتجنب الأوساخ العالقة على القشرة وبه أحافظ نظريًّا على ملابسي حذر الوالدة، لكن في الأعَمّ تسقط دفاعات تَحفُّظي أمام اغراءات «كُوكْ»، فأستجيبُ له في وَجَلِ العاشقين، أكشطُ سطحه اللزج بأسناني إلى أن يَبْيضَّ تَصحُّرًا،.. هذا الطقس يأتي لتبريد الحلق بعد تناول كُوَّيْرات من "آكْرا" غُرِزت فيها ملعقة من صلصة فلفل قاتل، يُلقِي في وجهي نفثةً حارقة تُعلِن عن إحساس عظيم..

هذه العادة "المتوحشة" ما زالتْ تهواها نفسي حتى اليوم، وكُلّما اختليتُ بالثمرة فتكتُ بها فتكًا متوحشًّا،.. وقد أمْخُرُ المدينة مساءً بطولها أبحث عن آخر مَظانِّ "آكْرا" كُلَّما حاق بيَّ الفَقد..

أمَّا في المآدب الفاخرة المُعلَّفة بالرِّياء رغم المزاج والمزاح الرَّائق، والتي تستدعي محاباةَ الإتيكيت والتّمثيل، فأتناول المانگو وفق أصول حسن السّلوك، أفلقُ الفاكهة من خط انتصافها إلى نصفين، التقطُ لُبَّها بالملعقة برشاقة، وأهمسُ لِي في أُذُنِي «اتْمَسْرَحي» يا دهماء، الله عليك!

وُلِدنا مَعْشَرَ الگصراويين على رنينٍ يَشعُّ فِتنةً، هوَّ صوت ارتطام الملعقة بزجاج الكأس في قهوة "رَسْتوراه جالّو"، والمفارقة أنها قهوة بالحليب لكن لا تُحضَّرُ في فنجان، بل في كأس شَراب!،.. ترافقها قطعة خبز بها شقٌّ جانبي ومطلية بسخاء بالزبدة،.. سَايَرتْني نفس الصُّورة إلى اليوم، تمامًا كما تعلَّمتُها من فَقيهِ الخلط الغيني،.. وإنْ رغبتُ في استرجاعها، لا أقنعُ بأقلّ من نفسِ المقدار، قَدَحٌ كبيرٌ من القهوة بذاتِ التَّركيبة.. ولم تُنسني فيها كل النَّكهات التي تَلتْها واغتالتْها معنويًّا،..

في غياب الشٌّهود، أذوبُ في ارتشاف حليب اگلوريا من العلبة رأسًا مع قطعة خبز حاف، وقد استعضتُ بها علبة نستلي المحلاة، وتأنسُ روحي إلى هذه الوصفة في حالات المرض.

من تفاصيل الشَّاي وشروط الأنوثة، أنْ "نتربَّع اعْلَ لمَّاعين"، وطبعًا أفعلُها لدواعيها بِدقَّة،.. لكن في بعض اللحظات المُختلَسة يَسيل بي الوادي تجاه "لخوال" وأستطيبُ وضع "طبلة لمَّاعين" عن يميني "وازنابيل" عن شِمالي، وأمدُّ رجلَيَّ في خط مستقيم، ثم ألُفُّ السَّاق بالسَّاق وأقيم الشاي على سجيَّة الوالدة،.. وهي وضعية "بِحْرَيْفتْها"، ولا يُتقنها أبدًا بظان العرق الصّافي الخايْبينْ،.. وقد أسمعُ من الجوار بعض الهمس العُنصري من قبيل:«أُو، لا خابتْ اسريرهْ».. لكن لا يهُمُّني، «سَمَ يُونْ نوكوتي تِي وخُّو نارْ بوخيص».. لأنَّ مزاجي حينها اشرأبَّ يَستدرِجُ بعض الصّفاء الأثير، في لحظة أسْعَدُ فيها بأوبَتِي إليَّ..، إلى تَفاهاتي العتيدة.

تحياتي

التّكلف من أدْوارِ تعذيبِ النَّفس.

 

من صفحة الكاتبة المتميزة الدهماء ريم

 

 

 

       

بحث