ولد الاضمام يكتب ،،وصية محتضر،،

جمعة, 13/11/2020 - 16:23

تنشأ العلاقات بفعل الروابط والآثار المترتبة على تفاعل الأفراد والمجتمعات وتبادلهم المشاعر واحتكاكهم ببعض، وتعتبر العلاقات – على اختلاف أنواعها ومستوياتها - من ضرورات الحياة، وهي– حسب تسييرها – من أهم عوامل النجاح أو الفشل في تنظيم المشاريع الفردية والجماعية، وفي تحقيق أهدافها من التسلية والمتعة إلى التنشئة والبناء...
" كانت أم أحمد على سريرها في المستشفى إلى جانب أم إبراهيم التي لا تكف عن الأنين... حتى سمعتها تنادي بصوت ضعيف خافت , فقفزت إليها بسرعة ووقفت إلى جانبها لعلها تستطيع المساعدة، وقالت بلهفة: مرحبا يا خالتي كيف استطيع مساعدتك ؟ فردت أم إبراهيم: لا استطيع الصمود أكثر، فقد آن الأوان..إنها النهاية وأنا لا أريد منك سوى اخذ هذه الورقة التي كتبتُ فيها وصيتي، وعندما يأتي أولادي لأخذي أعطيهم إياها، وكانت تلك نهاية المسكينة أم إبراهيم. وبقيت السيدة أم أحمد تنتظر قدوم الأولاد لتعطيهم الورقة. وفي الصباح نهضت إلى ثلاجة الموتى باحثة عن أولاد تلك المسكينة، فوجدت مجموعة من الرجال هناك، فسألتهم: هل انتم أولاد المرحومة أم إبراهيم ؟... لا يا سيدة نحن جيرانهم، انتدبونا لدفنها لأن لديهم اليوم اجتماعا مهما ولا يستطيعون الحضور ...عندها عادت أم أحمد إلى الغرفة وحيدة وهي تبكي أم إبراهيم...!!"
اعترف بأني لم أقدم كثيراً للفقيدة أم إبراهيم، فلم تكن بيدي حيلة حين كان الدواء الموصوف لعلاجها غير موجود في منطقتي، ولم يسعفني حجم الراتب العاجز أصلا عن تأمين ضروري المصروف اليومي في رفعها للعلاج ببلد خارج...ولم تسمح ليَّ الظروف أن أكون بجانبها حين كانت تحتضر، فطريق التواصل بين المستشفى والناحية حيث أسكن طريق غير معبد وليست به إنارة عمومية، والأواقي القليلة التي بالكاد استلفتها من صاحب المحل لا تكفي لتزويد السيارة بالوقود... وللأسف تخلفت عن تشييع جنازة أم إبراهيم، فلم أستعد بعدُ شريحة هاتفي الذي سلبني إياه اللصوص ليلة سطوهم على بيتنا، ولهذا السبب فقد لا يوفق أحدهم في الاتصال بي للمشاركة في مراسيم الدفن والتشييع...أما البكاء، فرغم أني لم يكن باستطاعتي غيره، إلاّ أني لم أتجرأ على انتهاك نواهي الشرع ... لكن سيكون لي حضور مشرف في مكان تقديم واجب العزاء، وسأستغل الدقائق والثواني هناك، لأشارك القوم آلامي وأحزاني...وسأعبر خلال المأتم الحزين ذاك، عن حجم الفراغ الرهيب الذي ستشهده الأمة بعد رحيل فقيدة الحَيَّيْنِ أم إبراهيم ...
لم تكن أم إبراهيم إنساناً عادياً ، فقد عرفها سكان الحي منذ ستين سنة بالصبر والبساطة وحب الخير للناس، رغم ظروفها الصعبة ، كانت تحب بساطة العيش والحياة العادية، كانت ترى أولاد الجيران يركبون الحافلة عبر شوارعهم النظيفة في طريقهم إلى مدارسهم المحترمة...وكانت – رحمها الله – كلما عاد أبناءها من المدرسة من دون دفاتر وقمصانهم ممزقة وقد ضاعت أحذيتهم في أماكن الفساد واللعب في الشارع، تنهدت واستحضرت قول الحق جل وعلا:{{وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا80 فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا}}...وعلى الرغم من يقينها أن هذا كلام الله على لسان عبد من عباده الصالحين، كان حنان وعطف الأم يَطغيان على التمييز – لديها أحياناً – بين الخير والشر ، الجمال والقبح، الحزن والسعادة، الأمل والألم ... كانت أم إبراهيم - عفا الله عنا وعنها - مثالاً لأمهاتنا في الاستسلام لحالة العجز والقهر حين الإحساس بخيبة الأمل في فلذات أكبادهن...
وسأشيد بذالك الموقف الإنساني النبيل الذي وقفته أم أحمد مع الفقيدة وهي على سرير الموت...ولن أكل ولن تخور عزيمتي حتى أعثر على تلك الوصية النفيسة ...لن تضيع وصية أم إبراهيم، فسأجدها ولو في رماد الحريق ... فقد علمتني الحياة أن رجال الإطفاء لا يخمدون الحريق بالنار.
محمد الهادي ولد الزين ولد الامام

       

بحث