متابعة لحديث العلامة ولد الددو الشيق عن نفسه

جمعة, 07/08/2020 - 16:37

ولذلك يحتاج الإنسان لمن ينافسه ويعيش معه حياة الطلب، فيتذوق معه هذه العلوم ويراجع معه شروحها، وينافسه في المطالعة والحفظ والمذاكرة، وفي تحسين الخط لأن الخطوط يومها لم تكن تدرّس عندنا في "المحاظر"، فكان الناس يتعودون على المنافسة في الخطوط وإتقانها، خاصة أن المطابع لم تكن في بلادنا وكانت الكتب في معظمها مخطوطات، كما أن كثيرا من الكتب يُشتَرط أصلا لطالب العلم أن يخطها لنفسه، حتى إنه لا يتكل على أن لأبيه نسخة منها!

وأحيانا نجد أن بعض الأمهات كانت تتولى الكتابة عن ابنها، فتقول له: تفرغ أنت للحفظ والمنافسة وأنا أكتب لك ما يكتبه زملاؤك جميعا! فنحن لدينا الآن حوالي 41 مجلدا بخط جدتي، وكان الهدف الأساسي عندها من ذلك أن يتفرغ أولادها للتحصيل العلمي، ومن الكتب الموجودة عندنا بخطها كتاب فقهي بعنوان: ’ثِماني الدُّرَر في شرح المختصر’ للعلامة عبد القادر بن محمد المجلسي الشنقيطي (ت 1337هـ/1918م)، وهو في سبعة مجلدات مخطوطة ولو طُبع لكان واحدا وعشرين مجلدا!!

برنامج مشحون
* من هو أول شيخ تعرفتم عليه؟ وكيف كان منهجه التدريسي؟

  • بعد أن درستُ على الوالدات: الأم والجدة وعمة الوالدة وخالة الوالد وعمتي أنا مباشرة، فهؤلاء النسوة هن أول شيوخي؛ أخذت عن والدي القراءات والإجازة فيها وعلوم القرآن الأولية (الرسم والضبط والتجويد ومخارج الحروف)، وقراءة نافع بإكمالها بالإجازة برواية عيسى بن مينا المصري المعروف بقالون (ت 220هـ/835م).

ثم تفرغت للدراسة على جدي العلامة محمد عالي، فلازمته تسع سنوات فقرأت عليه فيها الكتب التسعة في الحديث، وأيضا ثمانية وخمسين كتابا في النحو والصرف، وعددا كثيرا من كتب فقه المذهب المالكي والمذاهب الأخرى مثل ‘المُغْني‘ لابن قدامة المقدسي (ت 620هـ/1223م)، وقد سمعت منه ’الشفا’ للقاضي عياض (ت 544هـ/1150م) ثلاث عشرة مرة، و’فتح الباري’ لابن حجر (ت 852هـ/1448م) كاملا خمس مرات، وتفسير القرطبي (ت 671هـ/1272م) قرأناه عليه ست مرات، وكانت هذه القراءات في مجالس علمية تعقد خارج الوقت المخصص لشرح المتون العلمية. أما طريقة جدي في التدريس فهي مشهورة معروفة؛ فقد كان يحلل ألفاظ المتن لغة واصطلاحا بمنتهى الدقة والتفصيل، ثم بعد أن يُنهي الدرس يعود إليه بالاستدلال والتأصيل لكل جزئية فيه.

* هل كان ثمة ترتيب للفنون في مجلس التدريس؟ وكيف كان برنامج شيخكم اليومي؟

  • لا بد أن يكون ثمة ترتيب لكتب الدراسة لأن "المحاظر" من النادر جدا أن تكون فيها دراسة طالب واحد لفنين في وقت واحد. لكن الشيخ جدي كان أحيانا يتجاوز لنا عن ذلك؛ فأنا مثلا كنت في الصباح أدرس مع الطلاب، وفي الليل يختار لي الشيخ كتابا آخر زيادة على ذلك بالإضافة إلى كتب السماع.

أما عن برنامج الشيخ اليومي؛ فنحن ما كنا ندري متى يستيقظ لكنه كان يوقظنا في السدس الأخير من الليل (= الرابعة ليلا تقريبا) للأذكار والوضوء والسواك والتجهز للصلاة، ثم يكون هو أول من يؤذن ثم يصلي الفجر وكان أبي هو الإمام، ثم بعد صلاة الفجر يبدأ الشيخ أذكاره ولا يتحرك من مكانه حتى ترتفع الشمس فيصلي ركعتين، ثم يعود إلى البيت فيجد الطلاب قد أخذوا أماكنهم، والطلاب في "المحظرة" قسمان: فرادى و"دُوَل"، و"الدُّوَل" جمع "دَوْلة" والمقصودة بها في اصطلاحهم مجموعة طلاب تدرس كتابا واحدا مشتركا بينها، والفرادى تقال للشخص الذي يدرس كتابا وحده، وعادة يبدأ الشيخ بتدريس "الدُّوَل" قبل الأفراد إلا إذا كان لأحدهم عذر يستحق به التقديم كسفر أو مرض.

ولم يكن الشيخ يرتب "الدُّوَل" حسب الفنون بل حسب الأولية فأول من حضر يكون هو الأَوْلى بالتدريس، وهناك شخص مكلف بكتابة الحاضرين حسب أسبقيتهم، وتكون اللائحة بين يدي الشيخ فيقدم الأول فالأول. وحين يبدأ الشيخ تدريسه لا يقوم من جلسته إلا لصلاة الظهر، والغالب أن تكون الدروس قد شملت غالب الفنون وأتت على كل الحاضرين، فإذا صلى يستقبل في المسجد الضيوف والمستفتين وأصحاب الحوائج، ثم يعود إلى البيت للراحة قليلا ثم يستيقظ ليؤذِّن لصلاة العصر.

وبعد صلاة العصر يبدأ وقت الإجازة، وهي أن يقرأ الطلاب على الشيخ ما سيحفظونه فيصححه لهم، ويكون كلما يحفظونه قد رُوي عنه رواية صحيحة متصلة بأسانيده، وأحيانا يذكر الشيخ روايات مختلفة للمتن. وبعد أن ينتهي الطلاب من الإجازة؛ يبدأ الشيخ ورده اليومي من القرآن وهو يقرأ كل يوم رُبُعَ القرآن، ثم يبدأ درس المطالعة الذي لا يحضره الطلاب عادة وإنما يحضره أهل بيت الشيخ فقط وأفراد قليلون، وهو الذي ذكرتُ أننا قرأنا فيه الكتب المتقدمة من تفسير وشروح حديث ونحوها.

أما برنامج الشيخ الليلي فيخصصه لتدريس النساء، حيث يجتمعن بعد صلاة العشاء ويكنّ مثل الطلاب في النهار، فمنهن من تدرّسهن النساءُ ومنهن من يدرسنَ على الشيخ، والأخيرات يأخذن مجالسهن في البيت بعد الصلاة ونوافل الشيخ، ولهن أيضا ترتيب في الأولية مكتوب حسب الأسبقية، وقد وصف مؤرخ موريتانيا العلامة المختار بن حامد (ت 1413هـ/1993م) دراسة النساء في مجلس جدي بقوله من مقطوعة شعرية:
يجـــتمع النــــــساءُ كلَّ لــــــيلةِ ** مِن بعدما صَلَّيْنَ في الجماعةِ
خلفَ مُميتِ الجهلِ مُحيي السُّنةِ ** مبارَكِ التـــعبيرِ عالي الرتبةِ
يَعينَ ما يَسمـــــعنَ من موعظةِ ** حســــنةٍ وحكـــــمةٍ بالـــــغةِ

تكوين مكين
* ما هي العلوم التي درستموها في "المحظرة"؟

 

يتبع ان شاء الله....

لمتابعة الحلقة الماضية ..اضغط هنــــــــــــــــا

       

بحث